بناء العضلات ونسيان الروح
إن من أهداف العنوان إثارة القارئ وجذبه إلى المقال، لما يثيره في ذهنه من التساؤلات والاستفهامات والإشكاليات المتعلقة بذلك العنوان، وحصول العنوان على مجال خصب من الأخذ والرد والتعاطي يدل على أنه يؤدي مراده في لفت انتباه القارئين، ولقد جاء العنوان بهذه الصيغة «بناء العضلات ونسيان الروح» لإثارة قضية مهمة بين طلبة العلم لا بأس بإيضاحها قبل الدخول والولوج فيها، بناءُ العضلات أي إن طالب العلم يبني نفسه بناءً علميًّا رصينًا فيتدرج في سلم المعلومات حاله حال الإنسان الذي لا يعيش بدون العضلات، ولا بد أن تنمو تلك العضلات وتكبر وتقوى مع نمو هذا الجسد؛ لكي تتوافق معه في الحركة والسير.
وهكذا طالب العلم فإنه يبني هذه المعلومات العلمية يومًا بعد يومٍ وشهرًا بعد شهرٍ وعامًا بعد عامٍ لبناء عالِم فَقِيه متمكن، ولكن الخطر ليس في بناء هذه العضلات المشروعة، وإنما في نسيان الروح، ذلك أن كثيرًا من الطلاب يتناسون الروح في ترك تزكية الأنفس مِن إخلاص وزهد واعتبار وتفكر وتأمل.
ولقد اعتنَى القرآن الكريم بقضية الأخلاق كثيرًا في كتاب الله -سبحانه وتعالى- فالله تعالى يخاطب نبيه ﷺ بالإخلاص كما أنه خاطب المؤمنين به.
فالله تعالى يقول لنبيه ﷺ: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر: 14]، ويقول: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: 29]، ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر: 11]، ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162، 163].
ويقول النبي ﷺ: «مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ خَائِبٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ».
ولقد جاء في الحديث أن أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، أناس منهم: «وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» [أخرجه مسلم: 1905].
اعلم -يا طالب العلم- أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، لا معطي ولا مانع إلا الله، لا رافع ولا خافض إلا الله، لا معز ولا مذل إلا الله، ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2] ما فتحه الله عليك فلن يستطيع أحد من الخلق أن يمسكه عنك، وما أمسكه الله عنك فلن يستطيع أحد من الخلق أن يفتحه لك، فلا تطلب حرفا إلا لله، ولا تَتَعَلَّم مسألة إلا لله، لا تتعلم أبدا لأجل شيخ ولا لصديق ولا لمجتمع، وإنما تَعَلَّم لله، مبتغيا به وجه الله.
قيل: «الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده».
مَلحَظ آخر: التواضع، إن التواضع من سمات المؤمنين الصادقين المخلصين المخبتين، ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة : 54] الذِّلة هاهنا هي تواضع المؤمن للمؤمن، وعزة المؤمن على الكافر؛ لأن من حق المؤمن أن يتواضع لأخيه المؤمن، ويقول النبي ﷺ: «مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَه».
تَرَى طالب علم يُحدِّثُ شيخَه وأستاذَه عن مسائل في الدين ثم هو يقاطعه في كلامه دون أن يكمل، ثم إن شيخه يقف من أجل أن يجيبه إن كان في حالة الوقوف، وهو يحدثه في حالة الجلوس، لا أعني بذلك قاعات الصف الجامعية التي يكون الطالب فيها جالسًا والمدرس واقفًا ليشرح، فذلك نظام معلوم، ولكن أعني في حلقات الذكر عندما يقف المدرس لسبب ما فإذا بالطالب لا يقف، ويبقى على حاله مستريحًا متكئًا، ويخاطب أستاذه وشيخه ليتعلم منه، وهو في حال الجلوس! وشيخه في حال الوقوف! بل قد يكون قد رفع قدمًا على قدم!! إن هذا من سوء الأدب، ويطعن في تواضع طالب العلم، فليحذر طالب العلم من هذه المسألة.
يا طالب العلم إنما ما مَنَّ الله تعالى به عليك مِن سلوك هذا الطريق الشريف ليس لأنك أحد أفراد شعب الله المختار، أو لأنك ضمنت أنك من الأخيار؛ ولكنه ابتلاء من الله لينظر في عملك؛ ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40] لا تنظر إلى الناس نظرة احتقار، لا تنظر إلى العاصي في معصيته نظرة عُلو، بل نظرة شفقة؛ لأن الله هداك بفضله، ولو شاء لكنتَ مثل ذاك، لا تنظر إلى الجاهل نظرة ازدراء؛ لأن الله علمك بفضله، ولو شاء لكنتَ مثل ذاك.
مِن الخطأ أن يتصل سائل بطالب العلم ليستوضح مسألة ويستفهم معضلة فإذا به يعنفه ويوبخه ويصرخ في وجهه، وكأنه قد مَلَك رقابَ الناس، وكأنه قد جُعِل سلطانًا عليهم! نسي أنه هو الطبيب الذي ينبغي له أن يعالج مريضه بالدواء المناسب، نسي أنه الواعظ الذي أُمِرَ أن يقول حُسنًا ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 43، 44] نسي أنه الخبير الذي يلجأ إليه في وقت المعضلات فإذا هو يستصغر الناس ويصرخ في وجوهم ويعنفهم! نسي أن اتصال ذلك السائل مِنَّة مِن الله عليه؛ لأنه أجر جاء إليه وهو جالس في مكانه، فيه عِلم وفضل وعبادة وتفكر وموعظة دون أن يسعى لها، ودون أن يشقى.
فاحذر -يا طالب العلم- من هذه النظرة الدونية للناس، واعلم أنك محاسَب على كل قول ونية واعتقاد، فاحذر اللهَ، وراقب نفسَك، واعلم أن الذي أنت عليه إنما هو بفضل الله، ليس مِنَّة منك، وليس إرادة مطلقة لك، وإنما هو توفيق من الله ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88].
كتبه: أحمد بن عبيد التمتمي.
المصدر صفحة درر إيمانية
Www.drar-eym.com