في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم(فرضت على النبي الصلوات ليلة أسري به خمسين ثم نقصت حتى جعلت خمسةً) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفي الحديث فوائـد منها على وجه السرعة :
1-في الحديث دلالة على فريضة الصلوات الخمس عينيا دون غيرها والدليل الصريح لذلك رواية الأعرابي عند البخاري من طريق طلحة بن عبيد الله أن إعرابيا جاء إلى رسول الله ثائر الرأس فقال يا رسول الله : أخبرني ما فرض الله علي من الصلاة قال: الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً.
وجه الدلالة:نفى النبي فرضية صلاة على الأعيان غير الصلوات الخمس المفروضة في اليوم والليلة.
وقيل إن الوتر واجب, وقيل إن سنة الفجر واجبة,وقيل بفرضية غير هذه الصلوات على الأعيان, والصواب ما قدمته.
2-استدل بالحديث على قول الأشاعرة بجواز النسخ قبل الفعل؛ لأن الخمسين نسخت بالخمس قبل وقوع الفعل,ويعبر عنها آخرون بنسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به,وعبره عنها آخرون بجواز النسخ قبل وجوب العمل, وقال بعضهم: الأحسن أن يقال: نسخ الشيء قبل مضى مقدار ما يسعه من وقته, وإليك بيان المسألة باختصار شديد.
نص الأصوليون على وقوع النسخ قبل الفعل بعد دخول الوقت بما يجزي فعل المأمور به,وحكى بعضهم الإجماع على ذلك كأبي الحسن المرداوي, وابن عقيل ،وأبي المعالي في “البرهان”،وابن برهان في “الوجيز”،والآمدي,و أبو الخطاب في “التمهيد”.
واختلفوا في جواز النسخ قبل دخول وقت الفعل:
ذهب طائفة من الأصوليين إلى جواز النسخ قبل دخول وقت الفعل وعليه الأشاعرة, وأكثر الشافعية,وعامة الحنابلة,ونسب إلى أكثر الفقهاء وهذا أقرب إلى الصواب , واستدلوا بأدلة منها:
1-قصة إبراهيم حين أمر بذبح ابنه,قال تعالى{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }الصافات102.
وجه الاستدلال: أن الله أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل-عليهما السلام- ونسخ الأمر قبل دخول وقت الفعل.
واعترض:بأنه أمر بمقدمات الذبح وليس بالذبح.
ويجاب من وجوه:
أ-أنه أمر بالذبح والدليل قوله(إني أرى في المنام أني أذبحك) ورؤيا الأنبياء حق, وهي نوع من الوحي, فقال له ابنه عليهما السلام(يا أبت افعل ما تؤمر) وهذا نص صريح على أنه أمر بالذبح, والقول بخلاف ذلك باطل.
ب-لو أمر بمقدمات الذبح لما صح أن يوصف بالبلاء المبين قال الله{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ }الصافات106.
ج- لو أمر بمقدمات الذبح لما فدي بذبح عظيم, قال تعالى{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }الصافات107 ,ولقد وصف الله هذا الذبح بالعظيم؛ لأنه فداء لرجل عظيم امتثل أمر ربه في ابتلاء عظيم.
قلت:ومع ما قدمته فإن هذا الدليل لا يصلح للاحتجاج به في هذه المسألة؛ لأن النسخ هنا كان بعد دخول الوقت, وبعد أن هم إبراهيم بذبح ابنه,فإذن هذا الدليل خارج عن محل الخلاف هذا ما يظهر لي والله أعلم.
2-حديث الإسراء والمعراج السابق ذكره:فرضت على النبي الصلوات ليلة أسري به خمسين, ثم نقصت حتى جعلت خمسا.
وجه الاستدلال: أن الصلوات فرضت خمسين, ثم نسخت إلى خمس قبل دخول وقت الفعل.
وأجيب: أن ما روي في ليلة المعراج من فرض خمسين صلاة, ثم استقرت بخمس كان على وجه التقدير دون الفرض؛لأن الفرض يستقر بنفوذ الأمر, ولم يكن من الله تعالى فيه أمر إلا عند استقرار الخمس.
ويجاب:أن لفظ الحديث “فرضت على النبي الصلاة”,وهو صريح في الوجوب, ولا يصرف الدليل الظاهر إلى الباطن إلا بدليل,وما ذكره المعترض لا يرقى إلى صرف ظاهر الحديث, والله أعلم.
واعترض أيضا:أن الحديث وقع النسخ فيه قبل البلاغ, وقد نص كلا الفريقين على أن النسخ لا يقع إلا بعد البلاغ.
وأجيب من وجهين:
1-أن هذا الكلام قد يسلم به بالنسبة إلى الأمة,وأما بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد وقع النسخ بعد البلاغ وهو مكلف.
2-أن الأصوليين اختلفوا في جاوز النسخ قبل علم المكلف به قال قوم: لا يجوز النسخ قبل علم المكلف بالمأمور به؛ لعدم الفائدة باعتقاد الوجوب والعزم على الفعل,و قال الآمدي:يجوز لعدم مراعاة الحِكَم في أفعاله تعالى.
3 –حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي قال فيه:بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعث فقال ( إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار ) ثم قال: رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أردنا الخروج ( إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما.
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نسخ الأمر بالتحريق قبل مضي وقت يسع فيه الفعل.
4- ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث: ( ما هذه النار على أي شيء توقدون ) . قالوا على حمر إنسية فقال:أهريقوا ما فيها وكسروها,قال رجل يا رسول الله ألا نهريق ما فيها ونغسلها ؟قال ( أو ذاك).
وجه الاستدلال:أن النبي صلى الله عليه وسلم نسخ الأمر بالكسر إلى الغسل, وهذا كله قبل دخول وقت الفعل.
فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم خيرهم بين الأمرين ولم ينسخ بدليل قوله (أو ذلك) و أو تدل على التخيير.
قلت:إن الحديث ورد بلفظ (فذاك)كما عند ابن حبان, وهذا اللفظ لا يدل على التخيير, والسبب في اختلاف اللفظين كما يظهر هو تصرف الرواة.
وذهب أكثر المعتزلة والأحناف ونسب إلى أكثر الحنابلة إلى عدم ,وقوع النسخ قبل دخول وقت الفعل.
واستدلوا:
1-بأنه إذا وقع النسخ قبل الفعل صار بمعنى البداء والغلط.
وأجيب:أن البداء أنما يظهر على ما كان خافيا, والله لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض.
2-واحتجوا: أن الأمر من الله تعالى يدل على أن المأمور به فيه صلاح للمكلفين, وما كان صلاحا لهم لا يجوز للحكيم أن ينهاهم عنه ويمنعهم منه.
ويجاب:أنه كان صالحا للمكلفين في الفترة التي أرادها الله وإن قصرت,ثم كان الأصلح لهم نسخه,ومن ناحية أخرى فإن الله لا يجب عليه شيء ,ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, و لو كان هذا دليلا على المنع من النسخ قبل الفعل لوجب أن يجعل دليلا على إبطال النسخ أصلا,وأنتم لا تقولون بذلك.
3-واستدلوا: أنه لو جاز أن ينسخ الشيء قبل وقت الفعل؛ لجاز اجتماع الأمر والنهي في نفس المحل, وهذا غير جاز, وعلى هذا فلا يجوز الأمر والنسخ في الفعل قبل دخول وقته.
وأجيب من وجهين:
الأول:أن هذا المنع إنما يكون عند ورود الأمر والنهي في نفس المحل, وأما إذا ما اختلف المحل فإنه حينئذ يحل.
الثاني:أن الأمر والنهي يختلفان عن الإثبات والنسخ,وفائدة الأمر أنه يتضمن وجوب الاعتقاد, والعزم على الفعل, فافترق الأمران.
p